جريدة صوت الملايين
رئيس مجلس الإدارة
سيد سعيد
نائب رئيس مجلس الإدارة
د. محمد أحمد صالح
رئيس التحرير
محمد طرابية

تحقيقات وملفات   2024-08-29T23:59:25+02:00

أزمات تهدد بفشل تجربة التأمين الصحى الشامل

ايمان بدر

حتى أعتى الدول الرأسمالية الغربية تطبق أنظمة تأمين صحى على مواطنيها، ولديها قوانين تكفل للمواطن الحق فى الرعاية الصحية من قبل الدولة، ولعل أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية أكبر الدول القائمة على السوق الحر ومع ذلك مازال شعبها يتمسك بقانون التأمين الصحى الذى وضعه الرئيس الأسبق باراك أوباما، والمعروف بقانون "أوباما كير"، الذى يقدمه الحزب الديموقراطى حتى الآن خلال الماراثون الانتخابى باعتباره أبرز إنجازاته، وحتى المنافس الجمهورى دونالد ترامب رغم اعتراضه على بعض مواد هذا القانون، لكنه لم يعلن إنه سيقوم بإلغاء فكرة التأمين الصحى بشكل عام، رغم كونه رجل اعمال رأسمالى صميم، ولكنه أكد أنه سيصدر قوانين أخرى مختلفة، وهو ما يوضح مدى إحتياج جميع الشعوب إلى نظم تأمين صحى مهما كانت دولها ثرية ورأسمالية، كما يتضح أيضًا أن أى قانون يطبق لفترة تظهر فيه ثغرات ومشكلات فى التطبيق، يتعين معها تعديله.

وفى مصر لدينا قانون تأمين صحى شامل، ولدينا أيضًا إمكانية لتعديله، خاصًة وأنه يطبق على مراحل على سبيل التجريب، للوقوف على مدى نجاح التجربة فى بعض المحافظات وإمكانية تعميمها فى باقى المحافظات، وهو ما يحدث حاليًا مع القانون رقم 2 لسنة 2018، والذى ينص على أن التأمين الصحي الاجتماعي الشامل نظام إلزامي يقوم على التكافل الاجتماعي ويهدف إلى توفير تغطية تأمينية لجميع المواطنين المصريين القادرين وغير القادرين الحاصلين على دعم من الحكومة، بالإضافة إلى تغطية اختيارية للمصريين المقيمين في الخارج، وتغطية لجميع الأجانب المقيمين في مصر، مع مراعاة اتفاقات المعاملة بالمثل.

وفى محاولة للتعرف على مدى نجاح القانون الجديد فى تلافى عيوب النظام الحالى، يتعين معرفة أوجه القصور فى هذا النظام الذى مازال مطبقًا فى غالبية محافظات مصر، ليبقى السؤال الأهم عن مدى قدرة القانون الجديد على تلافى وعلاج هذه السلبيات، التى لا تتعلق بملف التأمين الصحى فقط ولكن بالمنظومة الصحية ككل وما تعانيه من عوار وأمراض مزمنة.

 

 

عيوب النظام الحالى وراء تدهور صحة المصريين وتفشى أمراض خطيرة بين الأطفال والمراهقين

 

 

 

-        أبرزها ارتفاع معدلات الإنفاق الشخصي وضعف مستوى الاستدامة ومحدودية الاختيار

 

حين تعلن إحدى الكليات العسكرية أو الرياضية عن أعداد المتقدمين لها فى مقابل أعداد اللائقين طبيًا- ولا نقول المقبولين بشكل عام، يتضح أن لدينا خلل فى المنظومة الصحية، تحدث عنها الرئيس عبد الفتاح السيسى شخصيًا أثناء افتتاح مصانع انتاج الأغذية الصحية لطلبة المدارس، حين تطرق الرئيس إلى إرتفاع نسب الانيميا والتقزم والسمنة المفرطة بين الأطفال والمراهقين بل والمواليد، ولكن بالطبع لا يرجع ذلك إلى سوء التغذية فقط، بدليل تفشى أمراض أخرى بين الأطفال لا علاقة لها بالغذاء مثل ثقوب القلب والتوحد وغيرها، ومن ثم يتعين النظر إلى ثقوب وتغرات تعانى منها المنظومة الصحية ككل، وفى القلب منها نظام التأمين الصحى، الذى يخدم غالبية المواطنين والذى تسببت عيوبه فى تدهور الحالة الصحية للناس بل ولأبناءهم، وهو ما يهدد الأجيال القادمة، خاصةً من الطبقات المتوسطة والفقيرة التى تخاطبها أنظمة التأمين الصحى، حتى أصبح لدينا شاب ثلاثينى مصاب بمشاكل فى العمود الفقرى والعظام والمفاصل، وزوجته عشرينية تعانى من فقر الدم والضعف العام، فكيف لهؤلاء أن ينجبوا طفل لائق طبيًا، وكيف لنظام التأمين الصحى أن يوفر لهم الرعاية الصحية والعلاج إذا كان هو نفسه يعانى من قصور فى أوجه متعددة ويحتاج إلى العلاج أو إلى رصاصة الرحمة لاستبداله بقانون جديد.

وحول تلك الفكرة صدرت مؤخرًا دراسة بعنوان "التأمين الصحى الشامل.. تحديات التطبيق ودروس التجربة" أعدتها الخبيرة منى لطفى، والتى استهلت ورقتها البحثية بالحديث عن النظام القائم والمطبق حاليًا، مشيرةً إلى أن نظام التأمين الصحي الجديد يهدف إلى التصدي للتحديات التي تواجه النظام الصحي الحالي، ومعالجة القصور في نظام الهيئة العامة للتأمين الصحي “القديم”؛ من ارتفاع معدلات الإنفاق الشخصي، ومحدودية الاختيار بين مقدمي الخدمات، وضعف مستوى الاستدامة المالية لنظام التأمين.

وأوضحت الدراسة أن مراحل منظومة التأمين الصحي الشامل قسمت على (9) مراحل خلال الفترة من عام 2019 حتى عام 2030، وشملت المرحلة الأولى (6) محافظات (بورسعيد – السويس – جنوب سيناء – الإسماعيلية – أسوان – الأقصر)، وكانت البداية ببورسعيد كتشغيل تجريبي، لافتةً إلى أن اختيار محافظات المرحلة الأولى يرجع إلى عدة معايير أبرزها قلة الكثافة السكانية مما يسهل عملية التجربة، بالإضافة إلى مدى قبول المحافظات لإطلاق المشروع، والقدرة على عمل تقييم شامل لسير العمل في المحافظات التي طبقته وتحديد معدلات الاستفادة من الخدمات الصحية وذلك قبل إدخال المنظومة في باقي المحافظات.

وبالأرقام تناولت الدراسة كل مرحلة، حيث شهدت المرحلة الأولى من التأمين الصحي الشامل تسجيل أكثر من 5 ملايين مواطن في المحافظات المطبق عليها التأمين، عن طريق تقديم أكثر من 37 مليون خدمة طبية وعلاجية للمستفيدين بنظام التغطية الصحية الشاملة في هذه المحافظات، بما في ذلك أكثر من 15 مليون خدمة في بورسعيد، و13 مليون خدمة في الأقصر، و7 ملايين خدمة في الإسماعيلية، وأكثر من مليون خدمة في جنوب سيناء، و510 آلاف خدمة في أسوان، و300 ألف خدمة طبية في السويس.

 ووفقًا للأرقام الحكومية بلغت نسبة رضاء المنتفعين عن جودة الخدمات الطبية المقدمة من منشآت هيئة الرعاية الصحية التابعة للتأمين الصحي الشامل نحو 91%، وذلك عن طريق تقييم الهيئة التأمين الصحي من خلال تدشين ما يقرب من 22 غرفة لإدارة الأزمات والطوارئ، لتبرز علامات استفهام حول مدى دقة هذه الأرقام ومدى قابلية التجربة للتطبيق فى باقى المحافظات الأكثر أزدحامًا والأوضح من حيث معاناة أهلها.

 

شبح التمويل مازال يطارده وهذه المحافظات مهددة بالعجز

 

 

-        استمرار أزمات نقص الأطباء وتدنى مستوى المستشفيات

 

-        استقالة 11 ألف طبيب مصرى بسبب غياب التأمين عليهم ضد مخاطر عملهم

 

أبرزت الدراسة وجهة نظر الحكومة المتمثلة فى توجيهات رئيس الوزراء  الدكتور مصطفى مدبولى بسرعة تطبيق المرحلة الثانية من نظام التأمين الصحى الشامل  استمرارًا لتحقيق التغطية الصحية الشاملة لجميع المصريين، مع ضمان جودة الخدمات المقدمة، والاهتمام بتوفير خدمات علاجية لكافة الفئات.

ولكنها استدركت متوقعةً أنه من المسلم به أن يواجه هذا النظام العديد من التحديات في مرحلته الثانية والتي يجب التغلب عليها، فإذا كان القطاع الطبى فى مصر يعانى بشكل عام من أزمة نقص الموارد المالية، رغم زيادة مخصصاته بنص الدستور، ولكن هذا الشبح يظهر بشكل أوضح فى تطبيق منظومة التأمين الصحى؛ ذلك لأن الزيادة التي تحدث في تحصيل الاشتراكات لن يقابلها زيادة في النفقات بسبب زيادة التكاليف الطبية الناتجة عن هذا الإدخال، خاصة وأن محافظات المرحلة الثانية ذات كثافة سكانية مرتفعة، فضلًا على أن الدولة تتحمل أعباء غير القادرين، مما قد يؤدي إلى حدوث عجز مالي في تطبيق المرحلة الثانية.

وفى سياق متصل يشكو غالبية العاملين فى القطاع الخاص من حرمانهم من معظم الخدمات بما فيها زيادة المرتبات السنوية وأيضًا خدمات التأمين الصحى، حيث تعد إحدى التحديات التي تواجه المنظومة، هي تسجيل المواطنين العاملين في القطاع غير الرسمي، والذي يصعب ضمهم إلى نظام الضريبة على الدخل، لذلك يقترح العمل على إيجاد مصادر تمويلية إضافية.

وعلى خلفية ذلك يبقى السؤال هو هل لدينا مستشفيات ومراكز طبية كافية وبحالة جيدة تجعلها مؤهلة لاستقبال تدفقات المنتفعين، حيث توقعت الدراسة أن المنشآت الصحية ستواجه إشكالية زيادة عدد المنتفعين نتيجة تغطية المنظومة لجميع المواطنين، في الوقت الذي تعاني فيه مصر انخفاضًا في قدرات البنية التحتية الصحية.

ومن البنية التحتية إلى الثروة البشرية التى يقوم عليها القطاع الصحى من أطباء وممرضين، حيث يواجه المشروع معضلة انخفاض عدد الكوادر الطبية المصرية بسبب ارتفاع معدلات الهجرة في المجال الطبي، واستندت على البيانات التى تشير إلى استقالة 11 ألف طبيب مصري من أصل 120 ألف طبيب، بسبب انخفاض رواتبهم وغياب أطر الحماية أثناء تأدية عملهم- أى أن الطبيب المصرى نفسه ينقصه التأمين على صحته وحياته ضد المخاطر التى يتعرض لها أثناء تأدية عمله- وعلى خلفية ذلك كشفت منظمة الصحة العالمية أن متوسط معدل الأطباء في مصر بالنسبة إلى المواطنين وصل إلى 7.09 أطباء لكل 10 آلاف مواطن في سنة 2019، مقابل الحد الأدنى المقبول به وهو 10 أطباء لكل 10 آلاف مواطن، وهى نسبة مرشحة لمزيد من التراجع مع زيادة عدد الأطباء المهاجرين للخارج مقابل الزيادة السكانية من 2019 وحتى الآن، ناهيك عن الأطباء الذين يقررون ترك المهنة نتيجة تعرضهم أو تعرض زملائهم لاعتداءات من قبل المنتفعين من الخدمات الطبية الحكومية وذويهم، بالإضافة إلى شركات الأدوية الخاصة التى توفر لهم فرص عمل بمرتبات مجزية تشجع الكثير من الأطباء والصيادلة والكيميائيين - المتخصصين فى التحاليل الطبية- على ترك القطاع الصحى الحكومى والعمل بهذه الشركات، وبالإضافة إلى انخفاض النسبة فإن المنظومة الصحية تعاني أيضًا عدم عدالة التوزيع.

وعلى ذكر شركات الأدوية يعانى القطاع الصحى بشكل عام من أزمة نواقص الأدوية واختفاء غالبية الأصناف خاصًة أدوية الأمراض المزمنة بل واختفاء البدائل لاسباب تتعلق بأسعار الدولار وصعوبة استيراد الأدوية نفسها أو المواد الفعالة، وبالطبع تنعكس هذه الأزمة على قطاع التأمين الصحى، فى ظل إعتماد غالبية المنتفعين خاصًة الموظفين وأصحاب المعاشات من أصحاب الأمراض المزمنة على أدوية التأمين التى يتم صرفها لهم من الصيدليات المتعاقد معها، والتى باتت أرففها شبه خاوية فى ظل نقص الأدوية من ناحية وارتفاع اسعارها من ناحية أخرى، وهو ما يعيدنا إلى معضلة نقص التمويل.

 

مفاجأة ..        حتى الحلول تواجه معوقات تجعلها غير قابلة للتنفيذ

 

 

-        المصريون مصابون بحساسية من فكرة خصخصة التأمين وعلامات استفهام تحيط بغالبية منظمات المجتمع المدنى

 

كعادة الأوراق البحثية اقترحت الدراسة فى الختام بعض الأمور التى ترى الباحثة أنها قادرة على الإسهام فى حل الأزمات التى تناولتها فى سياق السطور السابقة، ولكن تلك الحلول هى الأخرى يخشى أن تواجه معوقات تمنع نجاجها على أرض الواقع، وفى مقدمتها مقترح إشراك مقدمي الخدمات الصحية من القطاع الخاص، والذى يعرف إعلاميًا بخصخصة التأمين الصحى ومعروف مدى حساسية المصريين من فكرة الخصخصة عمومًا والتى غالبًا ما تتحول إلى مصمصة- على حد تعبير الكاتب الصحفى الناصرى عبدالحليم قنديل، ولكن تذهب غالبية الآراء إلى أن تنفيذ التغطية الصحية الشاملة بالمحافظات ذات الكثافة العالية يقترن بالتوسع في تطوير الخدمات والبنية التحتية من أجل مواكبة الطلب المتزايد على الرعاية الصحية،وهو ما يتعين معه التوسع في إشراك القطاع الخاص بوصفهم أطرافًا فاعلة في النظام الصحي، لا سيما في مجال العيادات الخارجية ورعاية مرضى الأقسام الداخلية في المستشفيات، مما يشجع المنافسة الصحية والتكامل بين القطاعين، وترى الباحثة أن ذلك سيساعد أيضًا على تقليل الفجوة الصحية في المحافظات ذات الكثافة السكانية المرتفعة والمحافظات التي بها نقص في البنية التحتية الصحية، مما يعزز من تكامل القطاعين لخدمة المنتفع.

وشددت الدراسة على أنه من الضروري عقد شراكات مع منظمات المجتمع المدني والتي لها دور كبير في تقديم خدمات صحية لقرى محافظات الوجه القبلي والبحري، وذلك من خلال تدشينها لبعض المستشفيات والمراكز ذات الخدمات المتوسطة وبأجر بسيط وتلعب دور مهمًا في تقديم الخدمات الصحية بتلك القرى، فضلًا عن تمويل النظام الجديد عن طريق التبرعات الخيرية وخلافه، وهو ما يعيدنا إلى معضلة التمويل لأن غالبية الجمعيات الخيرية – خاصًة تلك التى تمتلك وتدير مستشفيات- تعانى من أزمة نقص التمويل وتحوم حول الأخرى علامات استفهام حول مصادر تمويلها وأوجه إنفاقها، حيث تواجه إتهامات بأنها تنفق أموال التبرعات على إعلانات رمضانية لجمع المزيد من التبرعات.


مقالات مشتركة